ثم ذكر الإمام اللالكائي رحمه الله بعد هذه الآثار أثراً عن ربيعة، قال: (حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن آدم عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة ).
سفيان بن عيينة -وهو الإمام الثقة الثبت المشهور الذي لا يخفى فضله ومكانته على أحد في هذه الأمة- يقول: سئل ربيعة -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك -عن قوله : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، كيف استوى؟ قال: [[الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق]].
(الاستواء غير مجهول) أي: أن كل أحد يعرف معناه ممن يفقه لغة العرب.
(والكيف غير معقول) أي: لا يدخل ضمن إدراك العقول.
قال: (ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق) هذه قاعدة عظيمة جليلة في كل أمر، وهي جديرة أن تحفظ لتضمنها معاني عظيمة، فالله تبارك وتعالى عرفنا بنفسه عز وجل، وجعل هذا الأمر واضحاً جلياً بمقدار ما تستطيع عقولنا أن تحتمل وأن تطيق، فالراسخون في العلم يفهمون ذلك، وكذلك من دونهم ممن يفهمون خطاب الشريعة، والرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ، كما نص الله تعالى على ذلك في كتابه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه، وكل ما أوحى ربُّه إليه فقد بلغه إلينا كاملاً، فما أخبرنا به عن الله عز وجل فيجب علينا التصديق به، وكما أنه من المحال أن يكتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أمره ربه بتبليغه، وأوحاه إليه، فكذلك لا يجوز ولا يحق لنا بأي حال ألا نصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه القاعدة العظيمة تفيدنا كثيراً جداً، وذلك عندما ننظر إلى الضلالات والبدع التي أثارها الذين عطلوا صفات الله سبحانه وتعالى، واعترضوا على أحكامه، وعلى صفاته.
فمثلاً: الباطنية اعترضوا على الصفات وعلى الأحكام جميعاً، فأولوا الصلاة والصيام والحج والزكاة، وكذلك النصيرية والدروز الملحدون الكفرة، اعترضوا وأوّلوا، وردوا كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً، ولم يثبتوا منه شيئاً إلا مجرد اللفظ؛ والرافضة ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه، ونفاة الصفات أيضاً يقولون: إن إثبات العلو -مثلاً- يلزم منه التحيز والجسمية...إلخ.
فنقول: لا يخلو الأمر من حالين: إما أنكم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا محال، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم هذه الأمور، ولم تخطر له ببال، ولا لأحد من أصحابه، ولا من التابعين، فهم أعلم الخلق بالله، ولستم أعلم منهم بلا ريب أفلا يسعكم ما وسعهم؟!
والاحتمال الآخر: أن تقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الاستواء لابد أن يؤوَّل ويُقال: استوى بمعنى استولى، وأن اليد لابد أن تؤوَّل بمعنى القدرة، وأن الله لابد أن ينزه فتصرف هذه المعاني عن ظواهرها.
والمبتدعة قد يكفرون من أخذ بظاهر الأدلة: فمن الأشعرية من يرى أن من اعتقد العلو وأن الله في السماء فهو كافر.
فنقول: سبحان الله! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تَنزِل عليه هذه الآيات، ويذكر تلك الأحاديث، ولم يؤثر عنه -ولو مرة واحدة- أنه قال: يا أصحابي انتبهوا! أو يا أيها المسلمون انتبهوا، ونبهوا من خلفكم! أن هذه الألفاظ ليست على ظاهرها فيجب أن تؤولوها، لم يقل ذلك -ولو مرة واحدة- إذاً: لازم كلامهم أنهم يتهمونه صلى الله عليه وسلم بأنه كتم ذلك، فيقولون: لم نقل: إنه كتم؛ إذاً: فهل لم يعلم؟! وهل أنتم أعلم وأكثر تنزيهاً لله، أو أحرص على تنزيه الله منه صلى الله عليه وسلم؟ هذا باطل وذاك باطل، فيلزم من ذلك تصديقه صلى الله عليه وسلم كما قال ربيعة رحمه الله تعالى : (وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق).